فصل: تفسير الآية رقم (17)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

وقد أشير إلى الثاني بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً‏}‏ على أن الضمير الأول للنذير المحدث للناس عنه عليه الصلاة والسلام المفهوم من فحوى الكلام بمعونة المقام والضمير الثاني للملك لا لما رجع إليه الأول أي ولو جعلنا النذير الذي اقترحتم إنزاله ملكاً لمثلنا ذلك الملك رجلاً لعدم استطاعتكم معاينة الملك على هيكله الأصلي، وفي إيثار «رجلاً» على بشراً إيذان على ما قيل بأن الجعل بطريق التمثيل لا بطريق قلب الحقيقة وتعيين لما يقع به التمثيل، وفيه إشعار كما قال عصام الدين وغيره بأن الرسول لا يكون امرأة وهو متفق عليه وإنما الاختلاف في نبوتها‏.‏

والعدول عن ولو أنزلناه ملكاً إلى ما في النظم الجليل يعلم سره مما تقدم في بيان المراد، وقيل‏:‏ العدول لرعاية المشاكلة لما بعد‏.‏ ووجه شيخ الإسلام عدم جعل الضمير الأول للملك المذكور قبل «بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال‏:‏ ولو جعلناه نذيراً لجعلناه رجلاً مع فهم المراد منه أيضاً بأنه لتحقيق أن مناط إبراز الجعل الأول في معرض الفرض والتقدير ومدار استلزامه للثاني إنما هو ملكية النذير لا نذيرية الملك، وذلك لأن الجعل حقه أن يكون مفعوله الأول مبتدأ والثاني خبراً لكونه بمعنى التصيير المنقول من صار الداخل على المبتدأ والخبر، ولا ريب في أن مصب الفائدة ومدار اللزوم بين طرفي الشرطية هو محمول المقدم لا موضوعه فحيث كانت «لو» امتناعية أريد بيان انتفاء الجعل الأول لاستلزامه المحذور الذي هو الجعل الثاني وجب أن يجعل مدار الاستلزام في الأول مفعولاً ثانياً لا محالة ولذلك جعل مقابله في الجعل الثاني كذلك إبرازاً لكمال التنافي بينهما الموجب لانتفاء الملزوم» ولا يخلو عن حسن‏.‏ وجوز غير واحد كون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ جعلناه‏}‏ الخ جواب اقتراح ثان، وذلك أن للكفرة اقتراحين، أحدهما‏:‏ أن ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ملك في صورته الأصلية بحيث يعاينه القوم؛ والآخر أن ينزل إلى القوم ويرسل إليهم مكان الرسول البشر ملك فانهم كما كانوا يقولون‏:‏ لولا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ملك فيكون معه نذيراً كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 24‏]‏ فأجيبوا عن قولهم الأول بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏ الخ وعن قولهم الأخير بما ذكر فضمير ‏{‏جعلناه‏}‏ للرسول المنزل إلى القوم، ولا يخفى أن جعله جواباً عن اقتراح آخر غير ظاهر من النظم الكريم ولا داعي إليه أصلاً‏.‏

وبعضهم جعله جواباً آخر وجعل الضمير للمطلوب‏.‏ واعترض بأن المطلوب أيضاً ملك ولا معنى لقولنا لو جعلنا الملك ملكاً إلا أن يقال‏:‏ المراد لو جعلنا المطلوب ملكيته ملكاً، وتعقب بأن المطلوب هو النازل المقارن للرسول صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا غبار في الكلام خلا أن لزوم جعل الملك النازل رجلاً لجعله ملكاً كما هو مفهوم الآية الثانية ينافي لزوم هلاكهم له كما هو مفهوم الآية الأولى لتوقف الثاني على عدم الأول لأن مبناه على نزوله في صورته لا في صورة رجل فحينئذ يجب أن تكون الآية جواباً عن اقتراح آخر لا جواباً آخر عن الاقتراح الأول حتى لا يلزم المنافاة‏.‏

وأجيب بأنه على تقدير كونه جواباً آخر يكون جواباً على طريق التنزل، والمعنى ولو أنزلناه كما اقترحوا لهلكوا ولو فرضنا عدم هلاكهم فلا بد من تمثله بشراً لأنهم لا يطيقون رؤيته على صورته الحقيقية فيكون الارسال لغواً لا فائدة فيه، وأنت تعلم أن ما عولنا عليه وهو المروي عن حبر الأمة سالم عن مثل هذه الاعتراضات‏.‏ نعم ذكر بعض الفضلاء إشكالاً وهو أن المقرر عند أهل الميزان أن صدق العكس لازم لصدق الأصل فعلى هذا يلزم من كذب اللازم كذب الملزوم فههنا عكس القضية الصادقة وهي ‏{‏لَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً‏}‏ غير صادق إذ هو لو جعلناه رجلاً لجعلناه ملكاً ولا خفاء في عدم تحققه فإن الله تعالى قد جعله رجلاً ولم يجعله ملكاً والجواب بأن ما ذكره أهل الميزان اصطلاح طار فلا يجب موافقة قاعدتهم لقاعدة أهل اللسان غير مرضي فإنه قد تقرر أن تلك القاعدة غير مخالفة لقاعدة اللغة وأنها مما لا خلاف فيه‏.‏

وأجيب عن ذلك بعد تمهيد مقدمة وهي أن للو الشرطية استعمالين لغوياً وهي فيه لانتفاء الثاني لانتفاء الأول كما في لو جئتني أكرمتك ومفهوم القضية عليه الأخبار بأن شيئاً لم يتحقق بسبب عدم تحقق شيء آخر، وعرفياً تعارفه الميزانيون فيما بينهم وذلك أنهم جعلوها من أدوات الاتصال لزومياً واتفاقياً وصدق القضية التي هي فيها بمطابقة الحكم باللزوم للواقع وكذبها بعدمها ويحكمون بكذبها وإن تحقق طرفاها إذا لم يكن بينهما لزوم وقد استعملها اللغويون أيضاً في هذا المعنى إما بالاشتراك أو بالمجاز كما يقال‏:‏ لو كان زيد في البلد لرآه أحد‏.‏ وفي بعض الآثار «لو كان الخضر حيا لزارني»، ومن البين أن المقصود الاستدلال بالعدم على العدم لا الدلالة على أن انتفاء الثاني سبب انتفاء الأول، وجعلوا من هذا الاستعمال ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وقد اشتبه هذان الاستعمالان على ابن الحاجب حتى قال ما قال بأن قول المستشكل‏:‏ إن عكس القضية الصادقة الخ إن أراد به أن القضية الصادقة هي المأخوذة باعتبار الاستعمال الأول فلا نسلم أن عكسه ما ذكر فإن عكس لو جئتني أكرمتك ليس لو أكرمتك لجئتني وإنما يكون كذلك لو كان الحكم في هذا الاستعمال بين الشرط والجزاء بالاتصال وليس كذلك بل القضية هي الجملة الجزائية والشرط قيد لها كما صرح به السكاكي على أن بعض أئمة التفسير قالوا‏:‏ المراد من الآية ولو جعلناه ملكاً لجعلناه على صورة رجل وأن المقصود بيان انتقاض غرضهم من قولهم‏:‏

‏{‏لولا أنزل عليه ملك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏ يعني أن نزول الملك لا يجديهم لأنهم وهم هم لا يقدرون على مشاهدة الملك على صورته التي هو عليها إلا أن يجعله متمثلاً على صورة البشر في مرتبة من مراتب التنزل حتى تحصل لهم معه مناسبة فيروه فتكون الآية على هذا بمراحل عن أن يبحث فيها عن أن عكسها ماذا أو كيف حالها في الصدق والكذب فإنها لم تسق لبيان لزوم الجعل الثاني للجعل الأول حتى يستدل بالعدم على العدم أو بالوجود على الوجود فنسبة هذا البحث إلى الآية كنسبة السمك إلى السماك وإن أراد به أن القضية الصادقة هي المأخوذة باعتبار الاستعمال العرفي المنطقي فمسلم أنه لا بد من صدق عكسها على تقدير صدق أصلها لكن لا نسلم كذب العكس هنا على ذلك التقدير فإنه إذا فرض لزوم الجعل رجلاً للجعل الأول كلياً على جميع التقادير يصدق لزوم الجعل ملكاً للجعل رجلاً على بعض الأوضاع والتقادير وهو اللازم المقرر في قواعدهم على أن قوله إن الله تعالى قد جعله رجلاً ولم يجعله ملكاً لا يليق أن يصدر مثله من مثله لأنه استدلال بعدم اللازم مع وجود الملزوم على بطلان اللزوم وهو كما لو قال قائل‏:‏ إذا قلنا إن كان زيد صاهلاً كان حيواناً لا يصدق عكسه، وهو قد يكون إذا كان زيد حيواناً كان صاهلاً لأنه ليس بصاهل في الواقع، ومنشأ هذا هو ظن أن عدم تحقق أحد الطرفين، أو كليهما ينافي اللزوم‏.‏ وأنت خبير بأن صدق اللزوم لا يتوقف على تحقق الطرفين ولا تحقق المقدم اه‏.‏

وبحث فيه المولى العلائي أما أولاً‏:‏ فبأن كون القضية هي الجملة الجزائية والشرط قيد لها كلام ذكره بعض أهل العربية ورده السيد السند وحقق اتفاق الفريقين على كون الجملة هي المجموع وحينئذ كيف يصح بناء الجواب على ذلك‏.‏ وأما ثانياً‏:‏ فبأن المستشكل لم يستدل بعدم اللازم مع وجود الملزوم على بطلان اللزوم كما لا يخفى على الناظر في عبارته، فالصواب أن يقال‏:‏ أكثر استعمال لو عند أهل العربية لمعنيين‏.‏ الأول ما ذكره المجيب من انتفاء الثاني لانتفاء الأول‏.‏ والثاني الدلالة على أن الجزاء لازم الوجود في جميع الأزمنة في قصد المتكلم‏.‏ وذلك إذا كان الشرط يستبعد استلزامه لذلك الجزاء ويكون نقيض ذلك الشرط أنسب وأليق باستلزام ذلك الجزاء فيلزم استمرار وجود الجزاء على تقدير وجود الشرط وعدمه كما في «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله تعالى لم يعصه»‏.‏

وقد صرح المحققون أن الآية إما من قبيل الأول أي لو جعلناه قرينا لك ملكاً يعاينونه أو الرسول المرسل إليهم ملكاً لجعلنا ذلك الملك في صورة رجل وما جعلنا ذلك الملك في صورة رجل لأنا لم نجعل القرين أو الرسول المرسل إليهم ملكاً‏.‏ وإما من قبيل الثاني أي ولو جعلنا الرسول ملكاً لكان في صورة رجل فكيف إذا كان إنساناً وكل منهما لا يقبل العكس المذكور ولا ثالث فلا إشكال فتدبر‏.‏ فالبحث بعد محتاج إلى بسط كلام ولو بسطناه لأمل الناظرين‏.‏

‏{‏وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ‏}‏ جعله بعضهم جواب محذوف أي ولو جعلناه رجلاً للبسنا الخ، وكأن الداعي إليه إعادة لام الجواب فإنه يقتضي استقلاله وأنه لا ملازمة بين إرسال الملك، واللبس عليهم فإنه ليس سبباً له بل لعكسه، ويجوز أن يكون عطفاً على جواب لو المذكور ولا ضير في عطف لازم الجواب عليه، ونكتة إعادة اللام أن لازم الشيء بمنزلته فكأنه جلماب، واللبس في الأصل الستر بالثوب ويطلق على منع النفس من إدراك الشيء بما هو كالستر له يقال لبست الأمر على القوم ألبسه إذا شبهت عليهم وجعلته مشكلاً‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ يقال لبست عليه الأمر إذا خلطته عليه حتى لا يعرف جهته أي لخلطنا عليهم بتمثيله رجلاً ما يخلطون على أنفسهم حينئذ بأن يقولوا له‏:‏ إنما أنت بشر ولست بملك، ولو استدل على ملكيته بالمعجز كالقرآن ونحوه كذبوه كما كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، وإسناد اللبس إليه تعالى لأنه بخلقه سبحانه وتعالى أو للزومه لجعله رجلاً‏.‏ ويحتمل أن يكون المعنى للبسنا عليهم حينئذ ما يلبسون على أنفسهم الساعة في تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم ونسبة آياته البينات إلى السحر، و‏{‏مَا‏}‏ على ما اختاره في «الكشف» على الأول موصولة وعلى الثاني يجوز أن تكون مصدرية وهو الأظهر لاستمرار حذف المثل في نحو ضربت ضرب الأمير، وأن تكون موصولة أي مثل الذي يلبسونه‏.‏ ومتعلق ‏{‏يَلْبِسُونَ‏}‏ على الوجهين على أنفسهم‏.‏ ويفهم من كلام الزجاج أنه على ضعفائهم حيث قال‏:‏ كانوا يلبسون على ضعفائهم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون‏:‏ إنما هذا بشر مثلكم فأخبر سبحانه وتعالى أنه لو جعلنا المرسل إليهم ملكاً لأريناهم إياه في صورة الرجل وحينئذ يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفاءهم منه‏.‏

وقرأ ابن محيصن ‏{‏ولبسنا‏}‏ بلام واحدة والزهري ‏{‏رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ‏}‏ بالتشديد، هذا وقد ذكر الإمام الرازي في بيان وجه الحكمة في جعل الملك على تقدير إنزاله في صورة البشر أموراً‏.‏ «الأول‏:‏ أن الجنس إلى الجنس أميل‏.‏ الثاني‏:‏ أن البشر لا يطيق رؤية الملك‏.‏ الثالث‏:‏ أن طاعات الملك قوية فيستحقرون طاعات البشر وربما لا يعذرونهم في الإقدام على المعاصي‏.‏

الرابع‏:‏ أن النبوة فضل من الله تعالى فيختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكاً أو بشراً»‏.‏ ولا يخفى أنه يرد على الوجه الثالث أنه إنما يتم إذا تبدلت حقيقة الملك المقدر نزوله بحقيقة البشر وهو مع كونه من انقلاب الحقائق خلاف ما يفهم من كتب أئمة التفسير من أن التبدل صوري لا حقيقي، وأن الوجه الرابع لا يظهر وجه كونه حكمة لتصوير الملك بصورة البشر‏.‏ وقول العلائي‏:‏ لعل وجهه أن المصور الذي قدر كونه نبياً لما اشتمل على جهتين البشرية صورة والملكية حقيقة لم يبعد أن يكون دليلاً على أن النبوة فضل من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكاً كهذا المصور باعتبار حقيقته أو بشرا مثله باعتبار صورته مما لا يتبلج له وجه القبول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ‏}‏ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه كالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل وأضرابهم أي أنك لست أول رسول استهزأ به قومه فكم وكم من رسول جليل الشأن فعل معه ذلك فالتنوين للتفخيم والتكثير و‏(‏ من‏)‏ ابتداء متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسل والكلام على حذف مضاف، وفي تصدير الجملة بالقسم وحرف التحقيق من الاعتناء ما لا يخفى‏.‏ وكون التسلية بهذا المقدار مما خفي على بعض الفضلاء وهو ظاهر، ولك أن تقول‏:‏ إن التسلية به وبما بعده من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏ لأنه متضمن أن من استهزأ بالرسل عوقب فكأنه سبحانه وتعالى وعده صلى الله عليه وسلم بعقوبة من استهزأ به عليه والسلام إن أصر على ذلك‏.‏

وحاق بمعنى أحاط كما روي عن الضحاك واختاره الزجاج، وفسره الفراء بعاد عليه وبال أمره، وقيل‏:‏ حل واختاره الطبرسي، وقيل‏:‏ نزل وهو قريب من سابقه ومعناه يدور على الإحاطة والشمول ولا يكاد يستعمل إلا في الشر كما قال‏:‏ فاوطا جرد الخيل عقر ديارهم *** وحاق بهم من بأس ضربة حائق

وقال الراغب‏:‏ أصله حق فأبدل من أحد حرفي التضعيف حرف علة كتظننت، وتظنيت أو هو مثل ذمة وذامة، والمعروف في اللغة ما اختاره الزجاج‏.‏

وقال الأزهري‏:‏ جعل أبو إسحق حاق بمعنى أحاط، وكأنه جعل مادته من الحوق «بالضم وهو ما أحاط بالكمرة من حروفها» وقد يفتح كما في «القاموس» وجعل أحد معاني الحوق بالفتح الإحاطة؛ وفيه أيضاً «حاق به يحيق حيقاً وحيوقا وحيقانا بفتح الياء أحاط به كأحاق وفيه السيف حاك وبهم الأمر لزمهم ووجب عليهم ونزل، وأحاق الله تعالى بهم مكرهم‏.‏ والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله»‏.‏ وظاهره أن حاق يائي وعليه غالب أهل اللغة وهو مخالف لظاهر كلام الأزهري من أنه واوي‏.‏ و‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ متعلق بسخروا والضمير للرسل‏.‏ ويقال‏:‏ سخر منه وبه كهزأ منه وبه فهما متحدان معنى واستعمالاً‏.‏ وقيل‏:‏ السخرية والاستهزاء بمعنى لكن الأول قد يتعدى بمن والباء‏.‏ وفي «الدر المصون» لا يقال إلا استهزأ به ولا يتعدى بمن‏.‏ وجوز أبو البقاء أن يكون الضمير للمستهزئين والجار والمجرور حينئذ متعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير الفاعل في «سخروا» ورد بأن المعنى حينئذ فحاق بالذين سخروا كائنين من المستهزئين ولا فائدة لهذه الحال لانفهامها من سخروا وأجيب بأن هذا مبني على أن الاستهزاء والسخرية بمعنى وليس بلازم فلعل من جعل الضمير للمستهزئين يجعل الاستهزاء بمعنى طلب الهزء فيصح بيانه ولا يكون في النظم تكرار‏.‏

فعن الراغب الاستهزاء ارتياد الهزء وإن كان قد يعبر به عن تعاطي الهزء كالاستجابة في كونها ارتياداً للإجابة وإن كان قد يجري مجرى الإجابة‏.‏

وجوز رجوع الضمير إلى أمم الرسل ونسب إلى الحوفي ورده أبو حيان بأنه يلزم إرجاع الضمير إلى غير مذكور وأجيب عنه بأنه في قوة المذكور‏.‏ و‏{‏بالذين‏}‏ متعلق بحاق وتقديمه على فاعله وهو ‏(‏ما‏)‏ للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم‏.‏ وهي إما مصدرية وضمير به للرسول الذي في ضمن الرسل‏.‏ وإما موصولة والضمير لها والكلام على حذف مضاف أي فأحاط بهم وبال استهزائهم أو وبال الذي كانوا يستهزؤون به‏.‏ وقد يقال‏:‏ لا حاجة إلى تقدير مضاف، وفي الكلام إطلاق السبب على المسبب لأن المحيط بهم هو العذاب ونحوه لا الاستهزاء ولا المستهزأ به لكن وضع ذلك موضعه مبالغة‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد من الذي كانوا يستهزؤون هو العذاب الذي كان الرسل يخوفونهم إياه فلا حاجة إلى ارتكاب التجوز السابق أو الحذف وقد اختار ذلك الإمام الواحدي‏.‏ والاعتراض عليه بأنه لا قرينة على أن المراد بالمستهزأ به هو العذاب بل السياق دليل على أن المستهزأ بهم الرسل عليهم الصلاة والسلام يدفعه أن الاستهزاء بالرسل عليهم الصلاة والسلام مستلزم لاستهزائهم بما جاؤوا به وتوعدوا قومهم بنزوله وان مثله لظهوره لا يحتاج إلى قرينة‏.‏

ومن الناس من زعم أن ‏{‏نَخْسِفْ بِهِمُ‏}‏ كناية عن إهلاكهم وإسناده إلى ما أسند إليه مجاز عقلي من قبيل أقدمني بلدك حق لي على فلان إذ من المعلوم من مذهب أهل الحق أن المهلك ليس إلا الله تعالى فإسناده إلى غيره لا يكون إلا مجازاً وأنت تعلم أن الحيق الإحاطة ونسبتها إلى العذاب لا شبهة في أنها حقيقة ولا داعي إلى تفسيره بالإهلاك وارتكاب المجاز العقلي، ولعل مراد من فسر بذلك بيان مؤدى الكلام ومجموع معناه‏.‏ نعم إذا قلنا‏:‏ إن الإحاطة إنما تكون للأجسام دون المعاني فلا بد من ارتكاب تجوز في الكلام على تقدير إسنادها إلى العذاب لكن لا على الوجه الذي ذكره هذا الزاعم كما لا يخفى‏.‏ وفي جمع «كانوا ويستهزؤون» ما مر غير مرة في أمثاله‏.‏ و‏{‏بِهِ‏}‏ متعلق بما بعده وتقديمه لرعاية الفواصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم بإنذار قومه وتذكيرهم بأحوال الأمم الخالية وما حاق بهم لسوء أفعالهم تخذيراً لهم عما هم عليه مما يحاكي تلك الأفعال‏.‏ وفي ذلك أيضاً تكملة لتسليته عليه الصلاة والسلام بما في ضمنه من العدة اللطيفة بأنه سيحيق بهم مثل ما حاق بأضرابهم الأولين، وقد أنجز سبحانه وتعالى ذلك إنجازاً أظهر من الشمس يوم بدر، والمراد من النظر التفكر، وقيل‏:‏ النظر بالأبصار، وجمع بينهما الطبرسي بناء على القول بجواز مثل ذلك‏.‏ و‏{‏كَيْفَ‏}‏ خبر مقدم لكان أو حال وهي تامة‏.‏ والعاقبة مآل الشيء وهي مصدر كالعافية، والتعبير بالمكذبين دون المستهزئين قيل‏:‏ للإشارة إلى أن مآل من كذب إذا كان كذلك فكيف الحال في مآل من جمع بينه وبين الاستهزاء‏.‏ وأورد عليه أن تعريف الذكبين للعهد وهم الذين سخروا فيكونون جامعين بين الأمرين مع إن الاستهزاء بما جاؤوا به يستلزم تكذيبه‏.‏ ولا يخفى أن مقصود القائل إن أولئك وإن جمعوا الأمرين لكن في الإشارة إليهم بهذا العنوان هنا ما لا يخفى من الإشارة إلى فظاعة ما نالهم، وقيل‏:‏ إن وضع المكذبين موضع المستهزئين لتحقيق أنه مدار ما أصابهم هو التكذيب لينزجر السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط مع بقاء التكذيب بحاله بناء على توهم أنه المدار في ذلك، وعطف الأمر بالنظر على الأمر بالسير بثم قيل للإيذان بتفاوت ما بينهما وإن كان كل من الأمرين واجباً لأن الأوّل إنما يطلب للثاني كما في قولك‏:‏ توضأ ثم صل، وقيل‏:‏ للإيذان بالتفاوت لأن الأول لإباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع‏.‏ والثاني لايجاب النظر في آثار الهالكين، ولا ريب في تباعد ما بين الواجب والمباح‏.‏ وأورد عليه كما قال الشهاب أنه يأباه سلامة الذوق لأن فيه إقحام أمر أجنبي وهو بيان إباحة السير للتجارة بين الإخبار عن حال المستهزئين وما يناسبه وما يتصل به من الأمر بالاعتبار بآثارهم وهو مما يخل بالبلاغة إخلالاً ظاهراً‏.‏

وتعقب بأن هذا وإن تراءى في بادىء النظر لكنه غير وارد إذ ذاك غير أجنبي لأن المراد خذلانهم وتخليتهم وشأنهم من الإعراض عن الحق بالتشاغل بأمر دنياهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِيَتَمَتَّعُواْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 66‏]‏‏.‏ وهذا حاصل ما قيل‏:‏ إن الكلام مجاز عن الخذلان والتخلية وإن ذلك الأمر متسخط إلى الغاية كما تقول لمن عزم على أمر مؤد إلى ضرر عظيم فبالغت في نصحه ولم ينجع فيه أنت وشأنك وافعل ما شئت فإنك لا تريد بذلك حقيقة الأمر كيف والآمر بالشيء مريد له وأنت شديد الكراهة متحسر ولكنك كأنك قلت له‏:‏ إذ قد أبيت النصح فأنت أهل لأن يقال لك‏:‏ افعل ما شئت‏.‏

ولا يخفى أن انفهام ذلك من الآية في غاية البعد‏.‏ وفرق الزمخشري بين هذه الآية وقوله تعالى في سورة النمل‏:‏ ‏[‏69‏]‏ ‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِى الارض فَاْنظُرُواْ‏}‏ بحمل الأمر بالسير هنا على الإباحة المذكورة آنفاً، وحمل الأمر به هناك على السير لأجل النظر‏.‏ ولهذا كان العطف بالفاء في تلك الآية‏.‏ ونظر فيه بعضهم بغير ما أشرنا إليه أيضاً‏.‏

وذكر أن التحقيق أنه سبحانه قال هنا‏:‏ ‏{‏ثُمَّ انظروا‏}‏ وفي غير ما موضع ‏{‏فانظروا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 137، النمل‏:‏ 36، العنكبوت‏:‏ 20، الروم‏:‏ 42‏]‏ لأن المقام هنا يقتضي ثم دونه في هاتيك المواضع وذلك لتقدم قوله تعالى فيما نحن فيه ‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم فِى الارض‏}‏ مع قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 6‏]‏ والأول يدل على أن الهالكين طوائف كثيرة‏.‏ والثاني يدل على أن المنشأ بعدهم أيضاً كثيرون فيكون أمرهم بالسير دعاء لهم إلى العلم بذلك فيكون المراد به استقراء البلاد ومنازل أهل الفساد على كثرتها ليروا الآثار في ديار بعد ديار وهذا مما يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من التعقيب الذي تقتضيه الفاء ولا كذلك في المواضع الاخر اه، ولا يخلو عن دغدغة‏.‏ واختار غير واحد أن السير متحد هناك وهنا ولكنه أمر ممتد يعطف النظر عليه بالفاء تارة نظراً إلى آخره وبم أخرى نظراً إلى أوله وكذا شأن كل ممتد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ على سبيل التقريع لهم والتوبيخ ‏{‏لّمَن مَّا فِى السموات والارض‏}‏ من العقلاء وغيرهم أي لمن الكائنات جميعاً خلقاً وملكاً وتصرفاً‏.‏ وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِلَّهِ‏}‏ تقرير للجواب نيابة عنهم أو إلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه وتعالى وفيه إشارة إلى أن الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ولا على دفعه دافع فإن أمر السائل بالجواب إنما يحسن كما قال الإمام في موضع يكون فيه الجواب كذلك، قيل‏:‏ وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب مع تعينه لكونهم محجوجين، وذكر عصام الملة أن قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏قُل لّمَنِ‏}‏ الخ معناه الأمر بطلب هذا المطلب والتوجه إلى تحصيله‏.‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُل لِلَّهِ‏}‏ معناه أنك إذا طلبت وأدى نظرك إلى الحق فاعترف به ولا تنكره‏.‏ وهذا إرشاد إلى طريق التوحيد في الأفعال بعد الإرشاد إلى التوحيد في الألوهية وهو الاحتراز عن حال المكذبين‏.‏ وفي هذا إشارة إلى وجه الربط وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباً ما يعلم منه الوجه الوجيه لذلك، والجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي لله تعالى ذلك أو ذلك لله تعالى شأنه‏.‏

‏{‏كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة‏}‏ جملة مستقلة داخلة تحت الأمر صادحة بشمول رحمته عز وجل لجميع الخلق أثر بيان شمول ملكه وقدرته سبحانه وتعالى للكل المصحح لإنزال العقوبة بالمكذبين مسوقة لبيان أنه تعالى رؤوف بالعباد لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة وما سبق وما لحق من أحكام الغضب ليس إلا من سوء اختيار العباد لسوء استعدادهم الأزلي لا من مقتضيات ذاته جل وعلا ‏{‏وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 117، النمل‏:‏ 33‏]‏، ومعنى كتب الرحمة على نفسه جل شأنه إيجابها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة بالذات لا بتوسط شيء‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتاباً فوضعه عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي» وفي رواية الترمذي عنه مرفوعاً «لما خلق الله تعالى الخلق كتب كتاباً عنده بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي» وفي رواية ابن مردويه عنه «إن الله تعالى كتب كتاباً بيده لنفسه قبل أن يخلق السموات والأرض فوضعه تحت عرشه فيه رحمتي سبقت غضبي» إلى غير ذلك من الأخبار، ومعنى سبق الرحمة وغلبتها فيها أنها أقدم تعلقاً بالخلق وأكثر وصولاً إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير‏.‏

وفي «شرح مسلم» للإمام النووي‏:‏ «قال العلماء‏:‏ غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة فإرادته الثواب للمطيع والمنفعة للعبد تسمى رضا ورحمة وإرادته عقاب العاصي وخذلانه تسمى غضباً وإرادته سبحانه وتعالى صفة له قديمة يريد بها ‏(‏جميع المرادات‏)‏، قالوا‏:‏ والمراد بالسبق والغلبة هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا منه» انتهى، وهو يرجع إلى ما قلنا‏.‏ وحاصل الكلام في ذلك أن السبق والغلبة في التعلقات في نفس الصفة الذاتية إذ لا يتصور تقدم صفة على صفة فيه تعالى لاستلزامه حدوث المسبوق، وكذا لا يتصور الكثرة والقلة بين صفتين لاستلزام ذلك الحدوث وقد يراد بالرحمة ما يرحم به وهي بهذا المعنى تتصف بالتعدد والهبوط ونحو ذلك أيضاً، وعليه يخرج ما أخرجه مسلم وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لله تعالى خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السموات والأرض فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة ‏"‏

وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ ‏"‏ إن لله تعالى مائة رحمة أهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا يتراحم بها الجن والإنس وطائر السماء وحيتان الماء ودواب الأرض وهوامها وما بين الهواء واختزن عنده تسعاً وتسعين رحمة حتى إذا كان يوم القيامة اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا فحواها إلى ما عنده فجعلها في قلوب أهل الجنة وعلى أهل الجنة ‏"‏ والمراد بالرحمة في الآية ما يعم الدارين مع عموم متعلقها، فما روي عن الكلبي من أن المعنى أوجب لنفسه الرحمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن لا يعذبهم عند التكذيب كما عذب من قبلهم من الأمم الخالية والقرون الماضية عند ذلك بل يؤخرهم إلى يوم القيامة لم يدع إليه إلا إظهار ما يناسب المقام من أفراد ذلك العام‏.‏ وفي التعبير عن الذات بالنفس رد على من زعم أن لفظ النفس لا يطلق على الله تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة‏.‏ واعتبار المشاكلة التقديرية غير ظاهر كما هو ظاهر‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ جواب قسم محذوف وقع على ما قال أبو البقاء كتب موقعه‏.‏ والجملة استئناف نحوي مسوق للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر، وقيل‏:‏ بياني كأنه قيل‏:‏ وما تلك الرحمة فقيل‏:‏ إنه تعالى ليجمعنكم الخ وذلك لأنه لولا خوف القيامة والعذاب لحصل الهرج والمرج وارتفع الضبط وكثر الخبط‏.‏ وأورد عليه أنه إنما يظهر ما ذكر لو كانوا معترفين بالبعث وليس فليس‏.‏

وقال بعض المحققين أيضاً‏:‏ إنه تكلف ولا يتوجه فيه الجواب إلا باعتبار ما يلزم التخويف من الامتناع عن المناهي المستلزم للرحمة، وقيل‏:‏ صلاحية ما في الآية للجواب باعتبار أن المراد ليجمعنكم إلى يوم القيامة ولا يعاجلكم بالعقوبة الآن على تكذيبكم على ما أشار إليه الكلبي، وقيل‏:‏ إن القسم وجوابه في محل نصب على أنه بدل من ‏{‏الرحمة‏}‏ بدل البعض، وقد ذكر النحاة أن الجملة تبدل من المفرد‏.‏ نعم لم يتعرضوا لأنواع البدل في ذلك والجار والمجرور قيل متعلق بمحذوف أي ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم الخ على أن البعث بمعنى الإرسال وهو مما يتعدى بإلى ولا يحتاج إلى ارتكاب التضمين، واعترض بأن البعث يكون إلى المكان لا إلى الزمان إلا أن يراد بيوم القيامة واقعتها في موقعها؛ وقيل‏:‏ هو متعلق بالفعل المذكور، والمراد جمع فيه معنى السوق والاضطرار كأنه قيل ليبعثنكم ويسوقنكم ويضطرنكم إلى يوم القيامة أي إلى حسابه، وقيل‏:‏ إنه متعلق بالفعل وإلى بمعنى في كما في قوله‏:‏ لا تتركني بالوعيد كأنني *** إلى الناس مطلي به القار أجرب

ومنع بعضهم مجىء إلى بمعنى في في كلامهم ولو صح ذلك لجاز زيد إلى الكوفة بمعنى في الكوفة وتأول البيت بتضمين مضافاً أو مبغضاً أو مكرهاً، وأجيب بأن ذلك إنما يرد إذا قيل‏:‏ إن استعمال إلى بمعنى في قياس مطرد ولعل القائل بالاستعمال لا يقول بما ذكر، وارتكاب التضمين خلاف الأصل، وارتكاب القول بأن إلى بمعنى في وإن لم يكن مطرداً أهون منه، وقيل‏:‏ إنها بمعنى اللام، وقيل‏:‏ زائدة والخطاب للكافرين كما هو الظاهر من السايق، وقيل‏:‏ عام لهم وللمؤمنين بعد أن كان خاصاً بالكافرين أي ليجمعنكم أيها الناس إلى يوم القيامة ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ أي لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه لوضوح أدلته وسطوع براهينه التي تقدم بعض منها‏.‏ والجملة حال من اليوم والضمير المجرور له، ويحتمل أن تكون صفة لمصدر محذوف والضمير له أي جمعاً لا ريب فيه، وجوز أن تكون تأكيداً لما قبلها كما قالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

‏{‏الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم‏}‏ بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم واستماع الوحي وغير ذلك من آثار الرحمة، وموضع الموصول قيل‏:‏ نصب على الذم أو رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم الذين وهو نعت مقطوع ولا يلزم أن يكون كل نعت مقطوع يصح اتباعه نعتاً بل يكفي فيه معنى الوصف ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الذى جَمَعَ مَالاً‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 1، 2‏]‏ كيف قطع فيه ‏{‏الذى‏}‏ مع عدم صحة اتباعه نعتاً للنكرة فلا يرد أن القطع إنما يكون في النعت والضمير لا ينعت، وقيل‏:‏ هو بدل من الضمير بدل بعض من كل بتقدير ضمير أو هو خبر مبتدأ على القطع على البدلية أيضاً ولا اختصاص للقطع بالنعت، ولعلهم إنما لم يجعلوه منصوباً بفعل مقدر أو خبراً لمبتدأ محذوف من غير حاجة لما ذكر لدعواهم أن مجرد التقدير لا يفيد الذم أو المدح إلا مع القطع‏.‏

واختار الأخفش البدلية، وتعقب ذلك أبو البقاء بأنه بعيد لأن ضمير المتكلم والمخاطب لا يبدل منهما لوضوحهما غاية الوضوح وغيرهما دونهما في ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ هو مبتدأ خبره ‏{‏فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان، وفي «الكشاف» «فإن قلت‏:‏ كيف يكون عدم إيمانهم مسبباً عن خسرانهم والأمر على العكس‏؟‏ قلت‏:‏ معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله تعالى لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون»‏.‏ وحاصل الكلام على هذا الذين حكم الله تعالى بخسرانهم لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون، والحكم بالخسران سابق على عدم الإيمان لأنه مقارن للعلم باختيار الكفر لا لحصوله بالفعل فيصح ترتب عدم الإيمان عليه من هذا الوجه، وأنت تعلم أن هذا السؤال يندفع بحمل الخسران على ما ذكرناه، ولعله أولى مما في «الكشاف» لما فيه من الدغدغة، والجملة كما قال غير واحد تذييل مسوق من جهته تعالى لتقبيح حالهم غير داخلة تحت الأمر‏.‏ وقيل‏:‏ الظاهر على تقدير الابتداء عطف الجملة على ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ فيحتاج الفصل إلى تكلف تقدير سؤال كأنه قيل‏:‏ فلم يرتاب الكافرون به‏؟‏ فأجيب بأن خسرانهم أنفسهم صار سبباً لعدم الإيمان، وجوز على ذلك التقدير كون الجملة حالية وهو كما ترى‏.‏

هذا ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ الذى خَلَقَ السموات والارض‏}‏ أي سموات عالم الأرواح وأرض عالم الجسم، ويقال‏:‏ الروح سماء القلب لأن منها ينزل غيث الإلهام والقلب أرضها لأنه فيه ينبت زهر الحكمة ونور المعرفة ‏{‏وَجَعَلَ الظلمات‏}‏ أي وأنشأ في عالم الجسم ظلمات المراتب التي هي حجب ظلمانية للذات المقدس وأنشأ في عالم الأرواح نور العلم والإدراك، ويقال‏:‏ الظلمات الهواجس والخواطر الباطلة والنور الإلهام وقال بعضهم‏:‏ الظلمات أعمال البدن والنور أحوال القلب‏.‏ ثم بعد ظهور ذلك ‏{‏الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏ غيره ويثبتون معه سبحانه وتعالى من يساويه في الوجود وهو الله الذي لا نظير له في سائر صفاته ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ‏}‏ وهو طين المادة الهيولانية ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلاً‏}‏ أي حداً معيناً من الزمان إذا بلغه السالك إلى ربه سبحانه وتعالى فنى فيه عز شأنه ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ‏}‏ وهو البقاء بعد الفناء، وقيل‏:‏ الأجل الأول هو الذي يقتضيه الاستعداد طبعاً بحسب الهوية وهو المسمى أجلاً طبيعياً للشخص بالنظر إلى مزاجه الخاص وتركيبه المخصوص بلا اعتبار عارض من العوارض الزمانية‏.‏

ونكر لأنه من أحكام القضاء السابق الذي هو أم الكتاب وهي كلية منزهة عن التشخصات إذ محلها الروح الأول المقدس‏.‏ والأجل الثاني هو الأجل المقدر الزماني الذي يقع عند اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع وهو مثبت في كتاب النفس الفلكية التي هي لوح القدر ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ‏}‏ بعد ما علمتم ذلك ‏{‏تَمْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 2‏]‏ وتشكون في تصرفه فيكم كما يشاء ‏{‏وَهُوَ الله فِى السموات وَفِى الارض‏}‏ أي سواء ألوهيته بالنسبة إلى العالم العلوي والسفلي ‏{‏يَعْلَمُ سِرَّكُمْ‏}‏ في عالم الأرواح وهو عالم الغيب ‏{‏وَجَهْرَكُمْ‏}‏ في عالم الأجسام وهو عالم الشهادة ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 3‏]‏ فيهما من العلوم والحركات والسكنات وغيرها فيجازيكم بحسبها، وقيل‏:‏ المعنى يعلم جولان أرواحكم في السماء لطلب معادن الأفراح وتقلب أشباحكم في الأرض لطلب الوسيلة إلى مشاهدته ويعلم ما تحصلونه بذلك ‏{‏وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ‏}‏ الأنفسية والآفاقية ‏{‏إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 4‏]‏ لسوء اختيارهم وعمى أعينهم عن مشاهدة أنوار الله تعالى الساطعة على صفحات الوجود ‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ لضعف يقينهم ‏{‏لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ‏}‏ فنراه لتزول شبهتنا ‏{‏وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الامر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏ أي أمر هلاكهم لعدم قدرتهم على تحمل مشاهدته ‏{‏وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 9‏]‏ ليمكنهم مشاهدته ‏{‏قُل لّمَن مَّا فِى السموات والارض‏}‏ أي ما في العالمين ‏{‏قُل لِلَّهِ‏}‏ إيجاداً وإفناءً ‏{‏كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة‏}‏‏.‏ قال سيدي الشيخ الأكبر قدس الله تعالى سره‏:‏ إن رحمة الله تعالى عامة وهي نعمة الامتنان التي تنال من غير استحقاق، وهي المرادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 951‏]‏ وإليها الإشارة بالرحمن في البسملة وخاصة وهي الواجبة المرادة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏ وإليها الإشارة بالرحيم فيها‏.‏ ويشير كلامه قدس الله تعالى سره في «الفتوحات» إلى أن ما في الآية هو الرحمة الخاصة، ومقتضى السياق أنها الرحمة العامة‏.‏

وذكر قدس الله تعالى سره في أثناء الكلام على الرحمة وقول الله عز شأنه يوم القيامة ‏(‏شفعت الملائكة وشفعت النبيون والمؤمنون وبقي أرحم الراحمين إن رحمة الله تعالى سبقت غضبه‏)‏ كما في الخبر فهي أمام الغضب فلا يزال غضب الله تعالى يجري في شأواه بالانتقام من العباد حتى ينتهي إلى آخر مداه فيجد الرحمة قد سبقته فتتناول منه العبد المغضوب عليه فتبسط عليه ويرجع الحكم لها فيه، والمدى الذي يقطعه الغضب ما بين ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 1‏]‏ الذي في البسملة وبين ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 3‏]‏ الذي بعد ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏

‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ فالحمد لله رب العالمين هو المدى وأوله وآخره ما قد علمت، وإنما كان ذلك عين المدى لأن فيه يظهر السراء والضراء، ولهذا كان فيه الحمد وهو الثناء ولم يقيد بسراء ولا ضراء فيعمهما، ويقول الشرع في حمد السراء‏:‏ الحمد لله المنعم المتفضل، ويقول في حمد الضراء‏:‏ الحمد لله على كل حال، فالحمد لله قد جاء في السراء والضراء فلهذا كان عين المدى، وما من أحد في الدار الآخرة إلا وهو يحمد الله تعالى ويرجو رحمته ويخاف عذابه واستمراره عليه فجعل الله تعالى عقيب ‏{‏الحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ فالعالم بينهما بما هو عليه من محمود ومذموم، وهذا شبيه بما جاء في سورة ألم نشرح وهو تنبيه عجيب منه سبحانه وتعالى لعباده ليتقوى عندهم الرجاء والطمع في رحمة الله تعالى‏.‏ وأنت إذا التفت أدنى التفات تعلم أنه ما من أثر من آثار البطش إلا وهو مطرز برحمة الله تعالى بل ما من سعد ونحس إلا وقد خرج من مطالع أفلاك الرحمة التي أفاضت شآبيبها على القوابل حسب القابليات؛ ومما يظهر سبق الرحمة أن كل شيء موجود مسبوق بتعلق الإرادة بإيجاده وإخراجه من حيز العدم الذي هو معدن كل نقص، ولا ريب في أن ذلك رحمة كما أنه لا ريب في سبقه، نعم تنقسم الرحمة من بعض الحيثيات إلى قسمين، رحمة محضة لا يشوبها شيء من النقمة كنعيم الجنة وهي الطالعة من بروح اسمه سبحانه الرحيم ولكونه صلى الله عليه وسلم يحب دخول أمته الجنة ويكره لهم النار سماه الحق عز اسمه الرحيم في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏، ورحمة قد يشوبها نقمة كتأديب الولد بالضرب رحمة به وكشرب الدواء المر البشع وهي المشرقة من مطالع آفاق اسمه عز اسمه الرحمن، ولعل هذه الرحمة العامة هي المرادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين‏}‏ ‏(‏الأنبياء؛ 107‏)‏ ثم اعلم أن سبق الرحمة الغضب يقتضي ظاهراً سبق تجليات الجمال على تجليات الجلال لأن الرحمة من الجمال والغضب من الجلال‏.‏

وذكر مولانا الشيخ عبد الكريم الجيلي قدس سره أن الجلال أسبق من الجمال‏.‏ فقد ورد في الحديث «العظمة إزاري والكبرياء ردائي» ولا أقرب من ثوب الرداء والإزار إلى الشخص‏.‏ ثم قال‏:‏ ولا يناقض هذا قوله جل شأنه‏:‏ ‏(‏سبقت رحمتي غضبي‏)‏ فإن الرحمة السابقة إنما هي بشرط العموم والعموم من الجلال‏.‏ وادعى أن الصفة الواحدة الجمالية إذا استوفت كمالها في الظهور أو قاربت سميت جلالاً لقوة ظهور سلطان الجمال فمفهوم الرحمة من الجمال وعمومها وانتهاؤها جلال، وأنت تعلم أنه إذا فسر السبق بالمعنى الذي نقله النووي عن العلماء سابقاً وهو الكثرة والشمول فهو مما لا ريب في تحققه في الرحمة إذ في كل غضب رحمة وليس في كل رحمة غضب كما لا يخفى على من حقق النظر‏.‏

وبالجملة في رحمته سبحانه مطمع أي مطمع حتى أن إبليس يرجوها يوم القيامة على ما يدل عليه بعض الآثار‏.‏ وأحظى الناس بها إن شاء الله تعالى هذه الأمة‏.‏ نسأل الله تعالى لنا ولكم الحظ الأوفر منها ‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ الصغرى أو الكبرى ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ في نفس الأمر وإن لم يشعر به المحجوبون ‏{‏الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم‏}‏ بإهلاكها في الشهوات واللذات الفانية فحجبوا عن الحقائق الباقية النورانية واستبدلوا بها المحسوسات الفانية الظلمانية ‏{‏فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 21‏]‏ لذلك، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَهُ‏}‏ عطف على ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ فهو داخل تحت ‏{‏قُلْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 12‏]‏ على أنه احتجاج ثان على المشركين وإليه ذهب غير واحد‏.‏ وقال أبو حيان‏:‏ «الظاهر أنه استئناف إخبار وليس مندرجاً تحت الأمر» أي ولله سبحانه وتعالى خاصة‏.‏ ‏{‏مَا سَكَنَ فِى اليل والنهار‏}‏ أي الوقتين المخصوصين‏.‏ و‏(‏ ما‏)‏ موصولة و‏{‏سَكَنَ‏}‏ إما من السكنى فيتناول الكلام المتحرك والساكن من غير تقدير، وتعديتها بفي إلى الزمان مع أن حق استعمالها في المكان لتشبيه الاستقرار بالزمان بالاستقرار بالمكان، وجوز أن يكون هناك مشاكلة تقديرية لأن معنى لله ما في السموات والأرض ما سكن فيهما واستقر، والمراد وله ما اشتملا عليه، وإما من السكون ضد الحركة كما قيل، وفي الكلام الاكتفاء بأحد الضدين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 18‏]‏ والتقدير ما سكن فيهما وتحرك وإنما اكتفى بالسكون عن ضده دون العكس لأن السكون أكثر وجوداً وعاقبة كل متحرك السكون كما قيل‏:‏ إذا هبت رياحك فاغتنمها *** فإن لكل خافقة سكون

ولأن السكون في الغالب نعمة لكونه راحة ولا كذلك الحركة‏.‏ ورد بأنه لا وجه للاكتفاء بالسكون عن التحرك في مقام البسط والتقرير وإظهار كمال الملك والتصرف‏.‏ وأجيب بأن هذا المحذوف في قوة المذكور لسرعة انفهامه من ذكر ضده والمقام لا يستدعي الذكر وإنما يستدعي عموم التغيرات والتصرفات الواقعة في الليل والنهار، ومتى التزم كون السكون مع ضده السريع الانفهام كناية عن جميع ذلك ناسب المقام‏.‏ وقيل‏:‏ إن ما سكن يعم جميع المخلوقات إذ ليس شيء منها غير متصف بالسكون حتى المتحرك حال ما يرى متحركاً بناءً على ما حقق في موضعه من أن تفاوت الحركات بالسرعة والبطء لقلة السكنات المتخللة وكثرتها، وفي معنى الحركة والسكون وبيان أقسام الحركة المشهورة كلام طويل يطلب من محله‏.‏

‏{‏وَهُوَ السميع‏}‏ أي المبالغ في سماع كل مسموع فيسمع هواجس كل ما يسكن في الملوين ‏{‏العليم‏}‏ أي المبالغ في العلم بكل معلوم من الأجناس المختلفة؛ والجملة مسوقة لبيان إحاطة سمعه وعلمه سبحانه وتعالى بعد بيان إحاطة قدرته جل شأنه أو للوعيد على أقوالهم وأفعالهم ولذا خص السمع والعلم بالذكر، وهي تحتمل أن تكون من مقول القول وأن تكون من مقول الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ للمشركين بعد توبيخهم بما سبق ‏{‏أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً‏}‏ إنكار لاتخاذ غير الله تعالى ولياً لا لاتخاذ الولي مطلقاً ولذا قدم المفعول الأول وأولى الهمزة ونحوه ‏{‏أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ‏}‏ ‏(‏الزمر؛ 64‏)‏ والمراد بالولي هنا المعبود لأنه رد لمن دعاه صلى الله عليه وسلم، فقد قيل‏:‏ إن أهل مكة قالوا له عليه الصلاة والسلام‏:‏ يا محمد تركت ملة قومك وقد علمنا أنه لا يحملك على ذلك إلا الفقر فارجع فإنا نجمع لك من أموالنا حتى تكون من أغنانا فنزلت‏.‏ واعترض بأن المشرك لم يخص عبادته بغير الله تعالى فالرد عليه إنما يكون لو قيل‏:‏ أأتخذ غير الله ولياً‏.‏ وأجيب بأن من أشرك بالله تعالى غيره لم يتخذ الله تعالى معبوداً لأنه لا يجتمع عبادته سبحانه مع عبادة غيره كما قيل‏:‏ إذا صافى صديقك من تعادى *** فقد عاداك وانقطع الكلام

وقيل‏:‏ الولي بمعنى الناصر كما هو أحد معانيه المشهورة، ويعلم من إنكار اتخاذ غير الله تعالى ناصراً أنه لا يتخذه معبوداً من باب الأولى، ويحتمل الكلام على ما قيل أن يكون من الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر قصداً إلى إمحاض النصح ليكون أعون على القبول كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏ياس‏:‏ 22‏]‏‏.‏

‏{‏فَاطِرَ السماوات والارض‏}‏ أي مبدعهما كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وأخرج أبو عبيدة وابن جرير وابن الأنباري عنه رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما‏:‏ أنا فطرتها يقول‏:‏ أنا ابتدأتها، وهو نعت للجلالة مؤكد للإنكار، وصح وقوعه نعتاً للمعرفة لأنه بمعنى الماضي سواء كان كلاماً من الله تعالى ابتداءً أو محكياً عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذ المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم، ويدل على إرادة المضي أنه قرأ الزهري ‏{‏فَطَرَ‏}‏ ولا يضر الفصل بينهما بالجملة لأنها ليست بأجنبية إذ هي عاملة في عامل الموصوف، وقيل‏:‏ بدل من الاسم الجليل، ورجحه أبو حيان بأن الفصل فيه أسهل، وقرىء بالرفع والنصب على المدح أي هو فاطر أو امدح فاطر، وجوز أن يكون النصب على البدلية من ‏{‏وَلِيّاً‏}‏ لا الوصفية لأنه معرفة، نعم يجوز على قراءة الزهري أن تكون الجملة صفة له‏.‏

‏{‏وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ‏}‏ أي يرزق ولا يرزق كما أخرجه ابن جرير وغيره عن السدي، فالمراد من الطعم الرزق بمعناه اللغوي وهو كل ما ينتفع به بدليل وقوعه مقابلاً له في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ‏}‏

‏[‏الذاريات‏:‏ 57‏]‏ وعبر بالخاص عن العام مجازاً لأنه أعظمه وأكثره لشدة الحاجة إليه، ويحتمل أنه اكتفى بذكره عن ذكره لأنه يعلم من ذلك نفي ما سواه فهو حقيقة، والجملة في محل نصب على الحالية، وعن أبي عمرو والأعمش وعكرمة أنهم قرأوا ‏{‏وَلاَ يُطْعَمُ‏}‏ بفتح الياء والعين أي ولا يأكل والضمير لله تعالى، ومثله قراءة أبي عبلة بفتح الياء وكسر العين، وقرأ يعقوب بعكس القراءة الأولى أعني بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل، والضمير حينئذٍ في الفعلين لغير الله تعالى أي أتخذ من هو مرزوق غير رازق ولياً، والكلام وإن كان مع عبدة الأصنام إلا أنه نظر إلى عموم غير الله تعالى وتغليب أولي العقول كعيسى عليه الصلاة والسلام لأن فيه إنكار أن يصلح الأصنام للألوهية من طريق الأولى، وقد يقال‏:‏ الكلام كناية عن كونه مخلوقاً غير خالق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 20 والفرقان‏:‏ 3‏]‏ ويحمل الفعل على معنى النفع لا يرد شيء رأساً، وقرأ الأشهب ‏{‏وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ‏}‏ ببنائهما للفاعل، ووجهت إما بأن أفعل بمعنى استفعل كما ذكره الأزهري أي وهو يطعم ولا يستطعم أي لا يطلب طعاماً ويأخذه من غيره أو بأن المعنى يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله سبحانه وتعالى ‏{‏يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ والضميران لله تعالى، ورجوع الضمير الثاني لغير الله تعالى تكلف يحتاج إلى التقدير‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ بعد بيان أن اتخاذ غيره تعالى ولياً مما يقضي ببطلانه بديهة العقول ‏{‏إِنّى أُمِرْتُ‏}‏ من جناب وليي جل شأنه ‏{‏أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ‏}‏ وجهه لله سبحانه وتعالى مخلصاً له لأن النبي عليه الصلاة والسلام مأمور بما شرعه إلا ما كان من خصائصه عليه الصلاة والسلام وهو إمام أمته ومقتداهم وينبغي لكل آمر أن يكون هو العامل أولاً بما أمر به ليكون أدعى للامتثال، ومن ذلك ما حكى الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام ‏{‏سبحانك تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ إن ما ذكر للتحريض كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يقول وأنا أول‏:‏ من يفعل ذلك ليحملهم على الامتثال وإلا فلم يصدر عنه صلى الله عليه وسلم امتناع عن ذلك حتى يؤمر به وفيه نظر‏.‏

‏{‏وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين‏}‏ أي في أمر من أمور الدين، وفي الكلام قول مقدر أي وقيل لي‏:‏ لا تكونن، فالواو من الحكاية عاطفة للقول المقدر على ‏{‏أُمِرْتُ‏}‏، وحاصل المعنى إني أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك، وقيل‏:‏ إنه معطوف على مقول ‏{‏قُلْ‏}‏ على المعنى إذ هو في معنى قل إني قيل لي كن أول مسلم ولا تكونن فالواو من المحكي، وقيل‏:‏ إنه عطف على ‏{‏قُلْ‏}‏ على معنى أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يقول كذا ونهى عن كذا، وتعقب بأن سلالة النظم تأبى عن فصل الخطابات التبليغية بعضها عن بعض بخطاب ليس منها، وجوز أن يعطفه على ‏{‏إِنّى أُمِرْتُ‏}‏ داخلاً في حيز ‏{‏قُلْ‏}‏ والخطاب لكل من المشركين، ولا يخفى تكلفه وتعسفه، وعدم صحة عطف على ‏{‏أَكُونَ‏}‏ ظاهر إذ لا وجه للالتفات ولا معنى لأن يقال أمرت أن لا تكونن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى‏}‏ أي بمخالفة أمره ونهيه أي عصيان كان فيدخل فيه ما ذكر دخولاً أولياً، وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ أي عذاب يوم القيامة وعظمه لعظم ما يقع فيه مفعول ‏{‏أَخَافُ‏}‏ والشرطية معترضة بينهما وجواب الشرط محذوف وجوباً‏.‏ وما تقدم على الأداة شبيه به فهو دليل عليه وليس إياه على الأصح خلافاً للكوفيين والمبرد، والتقدير إن عصيت أخف أو أخاف عذاب الخ، وقيل‏:‏ صرت مستحقاً لعذاب ذلك اليوم‏.‏ وفي الكلام مبالغة أخرى بالنظر إلى ما يفهم مما تقدم في قطع أطماعهم وتعريض بأنهم عصاة مستحقون للعذاب حيث أسند إلى ضمير المتكلم ما هو معلوم الانتفاء‏.‏ وقرن بإن التي تفيد الشك وجىء بالماضي إبرازاً له في صورة الحاصل على سبيل الفرض‏.‏ ويؤول المعنى في الآخرة إلى تخويفهم على صدور ذلك الفعل منهم فليس في الكلام دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام يخاف على نفسه المقدسة الكفر والمعصية مع أنه ليس كذلك لعصمته صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأورد بعضهم دلالة الآية على ما ذكر بحثاً ثم قال‏:‏ وأجيب عنه بأن الخوف تعلق بالعصيان الممتنع الوقوع امتناعاً عادياً فلا تدل إلا على أنه عليه الصلاة والسلام يخاف لو صدر عنه وحاشاه الكفر والمعصية وهذا لا يدل على حصول الخوف، وأنت تعلم أن فيما قدمنا غنى عن ذلك‏.‏ ويفهم من كلام بعضهم أن خوف المعصوم من المعصية لا ينافي العصمة لعلمه أن الله سبحانه وتعالى فعال لما يريد وأنه لا يجب عليه شيء، وفي بعض الآثار أنه عز شأنه قال لموسى عليه السلام‏:‏ «يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط2‏.‏

وجاء في غير ما خبر أنه صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح يصفر وجهه الشريف ويقول‏:‏ أخاف أن تقوم الساعة مع أن الله تعالى أخبره أن بين يديها ظهور المهدي وعيسى عليهما السلام وخروج الدجال وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك من الأمارات التي لم توجد إذ ذاك ولم تحقق بعد‏.‏ وصح أنه صلى الله عليه وسلم اعتذر عن عدم خروجه عليه الصلاة والسلام لصلاة التراويح بعد أن صلاها أول رمضان وتكاثر الناس رغبة فيها بقوله‏:‏ ‏"‏ خشيت أن تفرض عليكم ‏"‏ مع أن ما كان ليلة الإسراء إذ فرضت الصلوات يشعر بأنه تعالى لا يفرض زيادة عن الخمس وكل ذلك يدل على أن لله تعالى أن يفعل ما شاء وقصارى ما يلزم في أمثال ذلك لو فعل تغير تعلق الصفة وهو لا يستلزم تغير الصفة ليلزم الحدوث وقيام الحوادث به تعالى شأنه وهذا بحث طويل الذيل ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه إن شاء الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ‏}‏ أي من يصرف العذاب عنه فنائب الفاعل ضمير العذاب، وضمير ‏{‏عَنْهُ‏}‏ يعود على ‏{‏مِنْ‏}‏، وجوز العكس أي من يصرف عن العذاب‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ على الوجهين مبتدأ خبره الشرط أو الجواب أو هما على الخلاف، والظرف متعلق بالفعل أو بالعذاب أو بمحذوف وقع حالاً من الضمير‏.‏ وجوز أن يكون نائب الفاعل‏.‏ وهل يحتاج حينئذٍ إلى تقدير مضاف أي عذاب يومئذٍ أم لا‏؟‏ فيه خلاف فقيل‏:‏ لا بد منه لأن الظرف غير التام أي المقطوع عن الإضافة كقبل وبعد لا يقام مقام الفاعل إلا بتقدير مضاف و‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ له حكمه‏.‏ وفي «الدر المصون» لا حاجة إليه لأن التنوين لكون عوضاً يجعل في قوة المذكور خلافاً للأخفش‏.‏ وذكر الأجهوري أن التنوين هنا عوض عن جملة محذوفة يتضمنها الكلام السابق والأصل يوم إذ يكون الجزاء ونحو ذلك، والجملة مستأنفة مؤكدة لتهويل العذاب؛ وجوز أن تكون صفة ‏{‏عَذَابِ‏}‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم ‏{‏مَّن يُصْرَفْ‏}‏ على أن الضمير فيه لله تعالى‏.‏ وقرأ أبي ‏{‏مَّن يُصْرَفْ الله‏}‏ بإظهار الفاعل والمفعول به محذوف أي العذاب أو ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ بحذف المضاف أو يجعل اليوم عبارة عما يقع فيه، و‏{‏مِنْ‏}‏ في هذه القراءة أيضاً مبتدأ‏.‏ وجوز أبو البقاء أن تجعل في موضع نصب بفعل محذوف تقديره من يكرم يصرف الله العذاب عنه فجعل يصرف تفسيراً للمحذوف، وأن يجعل منصوباً بيصرف ويجعل ضمير ‏{‏عَنْهُ‏}‏ للعذاب أي أي إنسان يصرف الله تعالى عنه العذاب‏.‏

‏{‏فَقَدْ رَحِمَهُ‏}‏ أي الرحمة العظمى وهي النجاة كقولك‏:‏ إن أطعمت زيداً من جوعة فقد أحسنت إليه تريد فقد أتممت الإحسان إليه، وعلى هذا يكون الكلام من قبيل من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك و‏"‏ من كانت هجرته إلى الله تعالى ‏"‏ الخبر، ومن قبيل صرف المطلق إلى الكامل، وقيل‏:‏ المراد فقد أدخله الجنة فذكر الملزوم وأريد اللازم لأن إدخال الجنة من لوازم الرحمة إذ هي دار الثواب اللازم لترك العذاب‏.‏ ونقض بأصحاب الأعراف، وأجيب بأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَلِكَ الفوز المبين‏}‏ حال مقيدة لما قبله، والفوز المبين إنما هو بدخول الجنة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ‏}‏ ‏(‏آل عمران؛ 185‏)‏ وأنت تعلم أنه إذا قلنا‏:‏ إن الأعراف جبل في الجنة عليه خواص المؤمنين كما هو أحد الأقوال لا يرد النقض، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك، وما ذكر من الجواب مبني على ما لا يخفى بعده، والداعي إلى التأويل اتحاد الشرط والجزاء الممتنع عندهم‏.‏

وقال بعض الكاملين‏:‏ إن ما في النظم الجليل نظير قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه ‏"‏ يعني بالشراء المذكور، وإن اختلاف العنوان يكفي في صحة الترتيب والتعقيب، ولك أن تقول‏:‏ إن الرحمة سبب للصرف سابق عليه على ما تلوح إليه صيغة الماضي والمستقبل والترتيب باعتبار الاخبار‏.‏ وتعقبه الشهاب بأنه تكلف لأن السبب والمسبب لا بد من تغايرهما معنى، والحديث المذكور منهم من أخذ بظاهره ومنهم من أوله بأن المراد لا يجزيه أصلاً وهو دقيق لأنه تعليق بالمحال‏.‏ وأما كون الجواب ماضياً لفظاً ومعنى ففيه خلاف حتى منعه بعضهم في غير كان لعراقتها في المضي اه فليفهم‏.‏ والإشارة إما إلى الصرف الذي في ضمن ‏{‏يُصْرَفْ‏}‏ وإما إلى الرحمة، وذكر لتأويل المصدر بأن والفعل‏.‏ ومنهم من اعتبر الرحم بضم فسكون أو بضمتين وهو على ما في «القاموس» بمعنى الرحمة‏.‏ ومعنى البعد للإيذان بعلو درجة ما أشير إليه، والفوز الظفر بالبغية، وأل لقصره على المسند إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ‏}‏ أي ببلية كمرض وحاجة ‏{‏فَلاَ كاشف‏}‏ أي لا مزيل ولا مفرج ‏{‏لَهُ‏}‏ عنك ‏{‏إِلاَّ هُوَ‏}‏ والمراد لا قادر على كشفه سواه سبحانه وتعالى من الأصنام وغيرها ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ‏}‏ من صحة وغنى ‏{‏فَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدُيرٌ‏}‏ ومن جملته ذلك فيقدر جل شأنه عليه فيمسك به ويحفظه عليك من غير أن يقدر على دفعه ورفعه أحد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏ ويظهر من هذا ارتباط الجزاء بالشرط‏.‏ وقيل‏:‏ إن الجواب محذوف تقديره فلا راد له غيره تعالى، والمذكور تأكيد للجوابين لأن قدرته تعالى على كل شيء من الخير والشر تؤكد أنه سبحانه وتعالى كاشف الضر وحافظ النعم ومديمها، وزعم أنه لا تعلق له بالجواب الأول بل هو علة الجواب الثاني ظاهر البطلان إذ القدرة على كل شيء تؤكد كشف الضر بلا شبهة وإنكار ذلك مكابرة، «وأصل المس كما قال أبو حيان تلاقى الجسمين، والمراد به هنا الإصابة‏.‏ وجعل غير واحد الباء في بضر وفي بخير للتعدية وإن كان الفعل متعدياً كأنه قيل‏:‏ وإن يمسسك الله الضر‏.‏ وفسروا الضر بالضم بسوء الحال في الجسم وغيره وبالفتح بضد النفع، وعدل عن الشر المقابل للخير إلى الضر على ما في «البحر» لأن الشر أعم فأتى بلفظ الأخص مع الخير الذي هو عام رعاية لجهة الرحمة، وقال ابن عطية‏:‏ إن مقابلة الخير بالضر مع أن مقابله الشر وهو أخص منه من خفي الفصاحة للعدول عن قانون الضعة وطرح رداء التكلف وهو أن يقرن بأخص من ضده ونحوه لكون أوفق بالمعنى وألطق بالمقام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ لَكَ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تضحى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 118، 119‏]‏ فجيء بالجوع مع العري وبالظمأ مع الضحو وكان الظاهر خلافه‏.‏ ومنه قول امرىء القيس‏:‏

كأني لم أركب جواداً للذة *** ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال

ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل *** لخيلي كري كرة بعد إجفال

وإيضاحه أنه في الآية قرن الجوع الذي هو خلو الباطن بالعري الذي هو خلو الظاهر والظمأ الذي فيه حرارة الباطن بالضحى الذي فيه حرارة الظاهر‏.‏ وكذلك قرن امرىء القيس علوه على الجواد بعلوه على الكاعب لأنهما لذتان في الاستعلاء وبذل المال في شراء الراح ببذل الأنفس في الكفاح لأن في الأول‏:‏ سرور الطرب وفي الثاني‏:‏ سرور الظفر‏.‏ وكذا هنا أوثر الضر لمناسبته ما قبله من الترهيب» فإن انتقام العظيم عظيم‏.‏ ثم لما ذكر الإحسان أتى بما يعم أنواعه، والآية من قبيل اللف والنشر فإن مس الضر ناظر إلى قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنّى أَخَافُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 15‏]‏ الخ ومس الخير ناظر إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 16‏]‏ الخ‏.‏ وهي على ما قيل داخلة في حيز ‏{‏قُلْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 51‏]‏ والخطاب عام لكل من يقف عليه أو لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم ولا نافية للجنس، و‏{‏كاشف‏}‏ اسمها و‏{‏لَهُ‏}‏ خبرها والضمير المتفصل بدل من موضع ‏{‏لا كاشف‏}‏ أو من الضمير في الظرف، ولا يجوز على ما قيل أبو البقاء أن يكون مرفوعاً بكاشف ولا بدلاً من الضمير فيه لأنك في الحالين تعمل اسم لا ومتى أعملته في ظاهر نونته‏.‏ وفي هذه الآية الكريمة رد على من رجا كشف الضر من غير سبحانه وتعالى وأمل أحداً سواه‏.‏

وفي «فتوح الغيب» للقطب الرباني سيدي عبد القادر الجيلاني قدس الله تعالى سره من كلام طويل إن من أراد السلامة في الدنيا والآخرة فعليه بالصبر والرضا وترك الشكوى إلى خلقه وإنزال حوائجه بربه عز وجل ولزوم طاعته وانتظار الفرج منه سبحانه وتعالى والانقطاع إليه فحرمانه عطاء وعقوبته نعماء وبلاؤه دواء ووعده حال، وقوله فعل وكل أفعاله حسنة وحكمة ومصلحة غير أنه عز وجل طوى علم المصالح عن عباده وتفرد به فليس إلا الاشتغال بالعبودية من أداء الأوامر واجتناب النواهي والتسليم في القدر وترك الاشتغال بالربوبية والسكون عن لم وكيف ومتى‏؟‏ وتستند هذه الجملة إلى حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ ‏"‏ بينما أنا رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال‏:‏ يا غلام احفظ الله تعالى يحفظك احفظ الله تعالى تجده أمامك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما هو كائن ولو جهد العباد أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله سبحانه وتعالى لك لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله تعالى عليك لم يقدروا عليه فإن استطعت أن تعمل لله تعالى بالصدق في اليقين فاعمل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا ‏"‏ فينبغي لكل مؤمن أن يجعل هذا الحديث مرآة قلبه وشعاره ودثاره وحديثه فيعمل به من جهة حركاته وسكناته حتى يسلم في الدنيا والآخرة ويجد العزة برحمة الله عز وجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ قيل هو استعارة تمثيلية وتصوير لقهره سبحانه وتعالى وعلوه عز شأنه بالغلبة والقدرة، وجوز أن تكون الاستعارة في الظرف بأن شبه الغلبة بمكان محسوس، وقيل‏:‏ إنه كناية عن القهر والعلو بالغلبة والقدرة، وقيل‏:‏ إن ‏{‏فَوْقَ‏}‏ زائدة وصحح زيادتها وإن كانت اسماً كونها بمعنى على وهو كما ترى، والداعي إلى التزام ذلك كله أن ظاهر الآية يقتضي القول بالجهة والله تعالى منزه عنها لأنها محدثة بإحداث العالم وإخراجه من العدم إلى الوجود، ويلزم أيضاً من كونه سبحانه وتعالى في جهة مفاسد لا تخفى، وأنت تعلم أن مذهب السلف إثبات الفوقية لله تعالى كما نص عليه الإمام الطحاوي وغيره، واستدلوا لذلك بنحو ألف دليل، وقد روى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ والعرش فوق ذلك والله تعالى فوق ذلك كله ‏"‏ وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي استشفع بالله تعالى عليه‏:‏ ‏"‏ ويحك أتدري ما الله تعالى‏؟‏ إن الله تعالى فوق عرشه وعرشه فوق سماواته وقال بأصابعه مثل القبة وأنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب ‏"‏ 2‏.‏

وأخرج الأموي في «مغازيه» من حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد يوم حكم في بني قريظة‏:‏ ‏"‏ لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سموات ‏"‏ وروى ابن ماجه يرفعه قال‏:‏ ‏"‏ بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا إليه رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم وقال‏:‏ يا أهل الجنة سلام عليكم ثم قرأ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ‏}‏ ‏[‏ياس‏:‏ 58‏]‏ فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إل شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه ‏"‏‏.‏ وصح أن عبد الله بن رواحة أنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبياته التي عرض بها عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته وهي‏:‏

شهدت بأن وعد الله حق *** وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف *** وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة شداد *** ملائكة الإله مسومينا

فأقره عليه الصلاة والسلام على ما قال وضحك منه، وكذا أنشد حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قوله‏:‏

شهدت بإذن الله أن محمدا *** رسول الذي فوق السموات من عل

وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما *** له عمل من ربه متقبل وأن الذي

عادى اليهود ابن مريم *** رسول أتى من عند ذي العرش مرسل

وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم *** يقوم بذات الله فيهم ويعدل

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ وأنا أشهد‏.‏ وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى حكاية عن إبليس‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 17‏]‏ أنه قال‏:‏ لم يستطع أن يقول ومن فوقهم لأنه قد علم أن الله تعالى سبحانه من فوقهم، والآيات والأخبار التي فيها التصريح بما يدل على الفوقية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 1‏]‏‏.‏ و‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏ و‏{‏بَل رَّفَعَهُ الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 158‏]‏ إليه‏.‏ و‏{‏تَعْرُجُ الملئكة والروح إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 4‏]‏ وقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم‏:‏ ‏"‏ وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ‏"‏ كثيرة جداً، وكذا كلام السلف في ذلك فمنه ما روى شيخ الإسلام أبو إسمعيل الأنصاري في كتابه «الفاروق» بسنده إلى أبي مطيع البلخي أنه سأل أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه عمن قال‏:‏ لا أعرف ربي سبحانه في السماء أم في الأرض فقال‏:‏ قد كفر لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏الرحمن عَلَى العرش استوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏ وعرشه فوق سبع سموات فقال‏:‏ قلت فإن قال إنه على العرش ولكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض‏؟‏ فقال رضي الله تعالى عنه هو كافر لأنه أنكر آية في السماء ومن أنكر آية في السماء فقد كفر، وزاد غيره لأن الله تعالى في أعلى عليين وهو يدعى من أعلى لا من أسفل‏.‏

وأيد القول بالفوقية أيضاً بأن الله تعالى لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة تعالى عن ذلك فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفاً بضد ذلك لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده وضد الفوقية السفول وهو مذموم على الإطلاق، والقول بأنا لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها مدفوع بأنه سبحانه لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها فمتى سلم بأنه جل شأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم وأنه موجود في الخارج ليس وجوده ذهنياً فقط بل وجوده خارج الأذهان قطعاً وقد علم كل العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى البديهيات فلا يستدل بدليل على ذلك إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح، وإذا كان صفة الفوقية صفة كمال لا نقص فيها ولا يوجب القول بها مخالفة كتاب ولا سنة ولا إجماع كان نفيها عين الباطل لا سيما والطباع مفطورة على قصد جهة العلو عند التضرع إلى الله تعالى‏.‏

وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس إمام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول‏:‏ كان الله تعالى ولا عرش وهو الآن على ما كان فقال الشيخ أبو جعفر‏:‏ أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فكيف تدفع هذه الضرورة عن أنفسنا قال‏:‏ فلطم الإمام على رأسه ونزل وأظنه قال وبكى وقال حيرني الهمداني، وبعضهم تكلف الجواب عن هذا بأن هذا التوجه إلى فوق إنما هو لكون السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، ثم هو أيضاً منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه سبحانه ليس في جهة الأرض، ولا يخفى أن هذا باطل، أما أولاً‏:‏ فلأن السماء قبلة للدعاء لم يقله أحد من سلف الأمة ولا أنزل الله تعالى به من سلطان والذي صح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة فقد صرحوا بأنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة‏.‏ وقد استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في دعائه في مواطن كثيرة فمن قال‏:‏ إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة المسلمين‏.‏ وأما ثانياً‏:‏ فلأن القبلة ما يستقبله الداعي بوجهه كما تستقبل الكعبة في الصلاة وما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه مثلاً لا يسمى قبلة أصلاً فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها ولم يثبت ذلك في شرع أصلاً، وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل لا أن يميل إليه إذ هو تحته بل هذا لا يخطر في قلب ساجد‏.‏ نعم سمع عن بشر المريسي أنه يقول‏:‏ سبحان ربي الأسفل تعالى الله سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علواً كبيراً‏.‏

وتأول بعضهم كل نص فيه نسبة الفوقية إليه تعالى بأن فوق فيه بمعنى خير وأفضل كما يقال‏:‏ الأمير فوق الوزير والدينار فوق الدرهم‏.‏ وأنت تعلم أن هذا مما تنفر منه العقول السليمة وتشمئز منه القلوب الصحيحة فإن قول القائل ابتداء‏:‏ الله تعالى خير من عباده أو خير من عرشه من جنس قوله الثلج بارد والنار حارة والشمس أضوأ من السراج والسماء أعلى من سقف الدار ونحو ذلك وليس في ذلك أيضاً تمجيد ولا تعظيم لله تعالى بل هو من أرذل الكلام فكيف يليق حمل الكلام المجيد عليه وهو الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولوكان بعضهم لبعض ظهيراً، على أن في ذلك تنقيضاً لله تعالى شأنه ففي «المثل السائر‏:‏

ألم تر أن السيف ينقص قدره *** إذا قيل إن السيف خير من العصا

نعم إذا كان المقام يقتضي ذلك بأن كان احتجاجاً على مبطل كما في قول يوسف الصديق عليه السلام ‏{‏مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار مَا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 39‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 59‏]‏ ‏{‏والله خَيْرٌ وأبقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 73‏]‏ فهو أمر لا اعتراض عليه ولا توجه سهام الطعن إليه، والفوقية بمعنى الفوقية في الفضل مما يثبتها السلف لله تعالى أيضاً وهي متحققة في ضمن الفوقية المطلقة، وكذا يثبتون فوقية القهر والغلبة كما يثبتون فوقية الذات ويؤمنون بجميع ذلك على الوجه اللائق بجلال ذاته وكمال صفاته سبحانه وتعالى منزهين له سبحانه عما يلزم ذلك مما يستحيل عليه جل شأنه ولا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ولا يعدلون عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً لئلا يثبتوا معنى فاسداً أو ينفوا معنى صحيحاً فهم يثبتون الفوقية كما أثبتها الله تعالى لنفسه‏.‏ وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم؛ ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقاً والله تعالى لا يحصره شيء ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى عن ذلك وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله تعالى وحده فإذا قيل‏:‏ إنه تعالى في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح عندهم، ومعنى ذلك أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات، ونفاة لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلوم يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة وأنه سبحانه كان قبل الجهات وأنه من قال‏:‏ إنه تعالى في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم وأنه جل شأنه كان مستغنياً عن الجهة ثم صار فيها‏.‏ وهذه الألفاظ ونحوها تنزل على أنه عز اسمه ليس في شيء من المخلوقات سواء سمي جهة أم لم يسم وهو كلام حق ولكن الجهة ليست أمراً وجودياً بل هي أمر اعتباري ولا محذور في ذلك، وبالجملة يجب تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين وتفويض علم ما جاء من المتشابهات إليه عز شأنه والإيمان بها على الوجه الذي جاءت عليه‏.‏ والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي على أن بعض الآيات مما أجمع على تأويلها السلف والخلف والله تعالى أعلم بمراده‏.‏

‏{‏وَهُوَ الحكيم‏}‏ أي ذو الحكمة البالغة وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي أو المبالغ في الأحكام وهو اتقان التدبير وإحسان التقدير ‏{‏الخبير‏}‏ أي العالم بما دق من أحوال العباد وخفي من أمورهم‏.‏ واللام هنا وفيما تقدم للقصر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شهادة‏}‏ روى الكلبي أن كفار مكة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا محمد أما وجد الله تعالى رسولاً غيرك ما نرى أحداً يصدقك فيما تقول ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله فنزلت‏.‏ وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب وبحري بن عمرو فقالوا‏:‏ يا محمد ما تعلم مع الله إلهاً غيره‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا إله إلا الله تعالى بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو ‏"‏ فأنزل الله تعالى هذه الآية، والأول‏:‏ أوفق بأول الآية والثاني‏:‏ بآخرها‏.‏ فأي مبتدأ و‏{‏أَكْبَرَ‏}‏ خبره و‏{‏شَهَادَةً‏}‏ تمييز‏.‏

والشيء في اللغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، فقد ذكر سيبويه في الباب المترجم بباب مجاري أواخر الكلم وإنما يخرج التأنيث من التذكير ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى والشيء مذكر انتهى‏.‏ وهل يطلق على الله تعالى أم لا‏؟‏ فيه خلاف فمذهب الجمهور أنه يطلق عليه سبحانه فقال‏:‏ شيء لا كالأشياء واستدلوا على ذلك بالسؤال والجواب الواقعين في هذه الآية وبقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏ حيث إنه استثنى من كل شيء الوجه وهو بمعنى الذات عندهم وبأنه أعم الألفاظ فيشمل الواجب والممكن‏.‏

ونقل الإمام «أن جهماً أنكر صحة الإطلاق محتجاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ الاسماء الحسنى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏ فقال‏:‏ لا يطلق عليه سبحانه إلا ما يدل على صفة من صفات الكمال والشيء ليس كذلك»، وفي «المواقف وشرحه» الشيء عند الأشاعرة يطلق على الموجود فقط فكل شيء عندهم موجود وكل موجود شيء، ثم سيق فيهما مذاهب الناس فيه ثم قيل‏:‏ والنزاع لفظي متعلق بلفظ الشيء وأنه على ماذا يطلق، والحق ما ساعد عليه اللغة والنقل إذ لا مجال للعقل في إثبات اللغات‏.‏ والظاهر معنا فأهل اللغة في كل عصر يطلقون لفظ الشيء على الموجود حتى لو قيل عندهم الموجود شيء تلقوه بالقبول، ولو قيل‏:‏ ليس بيء تلقوه بالإنكار‏.‏ ونحو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً‏}‏ بنفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم لأن الحقيقة لا يصح فيها انتهى‏.‏

وفي «شرح المقاصد» أن البحث في أن المعدوم شيء حقيقة أم لا لغوي يرجع فيه إلى النقل والاستعمال وقد وقع فيه اختلافات نظراً إلى الاستعمالات‏.‏ فعندنا هو اسم للموجود لما نجده شائع الاستعمال في هذا المعنى ولا نزاع في استعماله في المعدوم مجازاً ثم قال‏:‏ وما نقل عن أبي العباس أنه اسم للقديم وعن الجهيمة أنه اسم للحادث، وعن هشام أنه اسم للجسم فبعيد جداً من جهة أنه لا يقبله أهل اللغة انتهى‏.‏

وفي ذلك كله بحث فإن دعوى الأشاعرة التساوي بين الشيء والموجود لغة أو الترادف كما يفهم مما تقدم من الكليتين ليس لها دليل يعول عليه‏.‏ وقوله‏:‏ إن أهل اللغة في كل عصر الخ إنما يدل على أن كل موجود شيء، وأما أن كل ما يطلق عليه لفظ الشيء حقيقة لغوية موجود فلا دلالة فيه عليه إذ لا يلزم من أن يطلق على الموجود لفظ شيء دون لا شيء أن يختص الشيء لغة بالموجود لجواز أن يطلق الشيء على المعدوم والموجود حقيقة لغوية مع اختصاص الموجود بإطلاق الشيء دون اللاشيء‏.‏ وإنكار أهل اللغة على من يقول‏:‏ الموجود ليس بشيء لكونه سلباً للأعم عن الأخص وهو لا يصح لا لكونهما مترادفين أو متساويين‏.‏ وقد أطلق على المعدوم الخارجي كتاباً وسنة فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 23، 24‏]‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وأخرج الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل فقال‏:‏ «إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري يقول‏:‏ لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن» ونحوه عن معاذ بن جبل والأصل في الإطلاق الحقيقة فلا يعدل عنها إلا إذا وجد صارف وشيوع الاستعمال لا يصلح أن يكون صارفاً بعد صحة النقل عن سيبويه‏.‏ ولعل سبب ذلك الشيوع أن تعلق الغرض في المحاورات بأحوال الموجودات أكثر لا لاختصاص الشيء بالموجود لغة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 9‏]‏ إنما يلزم منه نفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم وهو يضرنا لو كان المدعى تخصيص إطلاق الشيء لغة بالمعدوم وليس كذلك، فإن التحقيق عندنا أن الشيء بمعنى المشيء العلم به والإخبار عنه وهو مفهوم كلي يصدق على الموجود والمعدوم الواجب والممكن وتخصيص إطلاقه ببعض أفراده عند قيام قرينة لا ينافي شموله لجميع أفراده حقيقة لغوية عند انتفاء قرينة مخصصة وإلا لكان شموله للمعدوم والموجود معاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 16‏]‏ جمعاً بين الحقيقة والمجاز وهي مسألة خلافية ولا خلاف في الاستدلال على عموم تعلق علمه تعالى بالأشياء مطلقاً بهذه الآية فهو دليل على أن شموله للمعدوم والموجود معاً حقيقة لغوية، وذكر بعض الأجلة بعد زعمه اختصاص الشيء بالموجود أنه في الأصل مصدر استعمل بمعنى شاء أو مشيء فإن كان بمعنى شاء صح إطلاقه عليه تعالى وإلا فلا وأنت تعلم أنه على ما ذكرنا من التحقيق لا مانع من إطلاق الشيء عليه تعالى من غير حاجة إلى هذا التفصيل لأنه بمعنى المشيء العلم به والإخبار عنه فيكون إطلاق الشيء بهذا المعنى عليه عز وجل كإطلاق المعلوم مثلاً، ومعنى ‏{‏أَكْبَرُ شهادة‏}‏ أعظم وأصدق‏.‏

‏{‏قُلِ الله‏}‏ أمر له صلى الله عليه وسلم أن يتولى الجواب بنفسه هو عليه الصلاة والسلام لما مر قريباً‏.‏ والاسم الجليل مبتدأ محذوف الخبر أي الله أكبر شهادة، وجوز العكس‏.‏ ومذهب سيبويه أنه إذا كانت النكرة اسم استفهام أو أفعل تفضيل تقع مبتدأ يخبر عنه بمعرفة، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏شَهِيدٌ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه شهيد ‏{‏بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ‏}‏ فهو ابتداء كلام، وجوز أن يكون خبر ‏{‏الله‏}‏ والمجموع على ما ذهب إليه الزمخشري هو الجواب لدلالته على أن الله عز وجل إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم فأكبر شيء شهادة شهيد له، ونقل في «الكشف» أنه إن جعل تمام الجواب عند قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ فهو للتسلق من إثبات التوحيد إلى إثبات النبوة بأن هذا الشاهد الذي لا أصدق منه شهد لي بإيحاء هذا القرآن‏.‏ وإن جعل الكلام بمجموعه الجواب فهو من الأسلوب الحكيم لأن الوهم لا يذهب إلى أن هذا الشاهد يحتمل أن يكون غيره تعالى بل الكلام في أنه يشهد لنبوته أولاً فليفهم‏.‏

‏{‏وَأُوحِىَ إِلَىَّ‏}‏ من قبله تعالى ‏{‏هذا القرءان‏}‏ العظيم الشاهد بصحة رسالتي ‏{‏لاِنذِرَكُمْ بِهِ‏}‏ بما فيه من الوعيد‏.‏ واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة لأنه المناسب للمقام، وقيل‏:‏ إن الكلام مع الكفار وليس فيهم من يبشر‏.‏ وفي «الدر المصون» أن الكلام على حد ‏{‏سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏ ‏{‏وَمَن بَلَغَ‏}‏ عطف على ضمير المخاطبين أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه القرآن ووصل إليه من الأسود والأحمر أو من الثقلين أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأخرج أبو نعيم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلغه القرآن فكأنما شافهته ‏"‏ واستدل بالآية على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله ومن سيوجد بعد إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها‏.‏ واختلف في ذلك هو بطريق العبارة في الكل أو بالإجماع في غير الموجودين وفي غير المكلفين‏.‏ فذهب الحنابلة إلى الأول والحنفية إلى الثاني وتحقيقه في الأصول‏.‏ وعلى أن من لم يبلغه القرآن غير مؤاخذ بترك الأحكام الشرعية، ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال‏:‏ ‏"‏ أُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى فقال لهم‏:‏ هل دعيتم إلى الإسلام‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا فخلى سبيلهم ثم قرأ ‏{‏وَأُوحِىَ إلى‏}‏ الآية ‏"‏

وهو مبني على القول بالمفهوم كما ذهب إليه الشافعية، واعترض بأنه لا دلالة للآية على ذلك بوجه من الوجوه لأن مفهومها انتفاء الإنذار بالقرآن عمن لم يبلغه وذلك ليس عين انتفاء المؤاخذة وهو ظاهر ولا مستلزماً له خصوصاً عند القائلين بالحسن والقبح العقليين إلا أن يلاحظ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ وفيه أن عدم استلزام انتفاء الإنذار بالقرآن لانتفاء المؤاخذة ممنوع، والحسن والقبح العقليان قد طوي بساط ردهما، وجوز أن يكون ‏{‏مِنْ‏}‏ عطفاً على الفاعل المستتر في ‏(‏أنذركم‏)‏ للفصل بالمفعول أي لأنذركم أنا بالقرآن وينذركم به من بلغه القرآن أيضاً، وروى الطبرسي ما يقتضيه عن العياشي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما ولايخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن‏.‏

‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله ءالِهَةً أخرى‏}‏ جملة مستأنفة أو مندرجة في القول، والاستفهام للتقرير أو للإنكار، وقيل‏:‏ لهما، وفيه جمع بين المعاني المجازية و‏{‏أخرى‏}‏ صفة لآلهة‏.‏ وصفة جمع ما لا يعقل كما قال أبو حيان كصفة الواحدة المؤنثة نحو ‏{‏مَأَرِبُ أخرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 18‏]‏ ‏{‏وَللَّهِ الاسماء الحسنى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏ ولما كانت الآلهة حجارة وخشباً مثلاً أجريت هذا المجرى تحقيراً لها ‏{‏قُلْ‏}‏ لهم ‏{‏لاَّ أَشْهَدُ‏}‏ بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صرف‏.‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ تكرير للأمر للتأكيد ‏{‏إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ‏}‏ أي بل إنما أشهد أنه تعالى لا إله إلا هو‏.‏ و‏(‏ ما‏)‏ كافة‏.‏ وجوز أبو البقاء وزعم أنه الأليق بما قبله كونها موصولة ويبعده كونها موصولة وعليه يكون ‏{‏واحد‏}‏ خبراً وهو خلاف الظاهر‏.‏ ‏{‏وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏ من الأصنام أو من إشراككم‏.‏